السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قلتُ الأشاعرة وغيرهم من أهل البدع ينقلون كلام الطبري في استوى ثم يحرفونه فيقولون قال الطبري "علا عليها علو ملك وسلطان"
يعني هم أخذوا من الطبري معنى العلو الارتفاع لكن تفسيره ماذا؟ أخذوه من أحد معاني الاستواء والتي هي الاستيلاء أي علو الملك والسلطان فدمجوا بينها ودلسوا على الطبري والطبري ميز بين "الاستيلاء" و"العلو والارتفاع" ثم اختار "العلو والارتفاع" وضرب لها مثالاً هو الذي يبيّن بطلان ما ذهبوا إليه كما سيأتي مفصلاً
والرد بسيط جداً ولن أدعهم ينفذون قال الطبري وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه: {ثم استوى إلى السماء فسواهن}، علا عليهن وارتفع، فدبرهن بقدرته، وخلقهن سبع سموات. والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله: "ثم استوى إلى السماء"، الذي هو بمعنى العلو والارتفاع، هربا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه -إذا تأوله بمعناه المفهم كذلك- أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر. ثم لم ينج مما هرب منه! فيقال له: زعمت أن تأويل قوله "استوى" أقبل، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقل: علا عليها علو ملك وسلطان، لا علو انتقال وزوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه، لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولا لقول أهل الحق فيه مخالفا. وفيما بينا منه ما يشرف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إن شاء الله تعالى.
1- فبعضهم يأخذون فقط عبارة "علا عليها علو ملك وسلطان" من سياقها ثم يقولون هذا قول الطبري مثل بعضهم على موقعه فقال "الطبري ذكر في تفسيره جامع البيان أن الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه منها الاحتياز والاستيلاء، ثم أوّل قول الله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فقال: علا عليها علو ملك وسلطان لا علو انتقال وزوال.اهـ وهذا من الطبري تنزيه لله عن الجهة والمكان وعن الاستقرار والجلوس والمحاذاة وما كان من صفة المخلوق"
وسيأتي نقاش قوله
2- وبعضهم يعرضون قول الطبري كاملاً لكي لا يُقال عنه مدلس ثم يسرد ما يريد تحريفه مثل الآخر في الملك والسلطان
فأقول أتعرفون أين المحكم من كلام الطبري الذي لا مفر منه؟
ليس في هذا كله بل قبل هذا مباشرة أي قبل قوله "وأولى المعاني" وصولاً إلى قوله أولى المعاني لنعلم المجريات
قال الطبري اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {ثم استوى إلى السماء}؛
1- فقال بعضهم: معنى {استوى إلى السماء}: أقبل عليها، كما تقول: كان فلان مقبلاً على فلان، ثم استوى علي يشاتمني، واستوى إلي يشاتمني.
2- وقال بعضهم: قوله: {ثم استوى إلى السماء} يعني: استوت به
3- وقال بعضهم: {استوى إلى السماء}: عمد لها
4- وقال بعضهم: الاستواء هو العلو، والعلو هو الارتفاع
ثم قال الطبري الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه:
1- منها انتهاء شباب الرجل وقوته
2- ثم قال الطبري ومنها استقامة ما كان فيه أود من الأمور والأسباب.
3- ثم قال الطبري ومنها: الإقبال على الشيء يقال استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسوءه بعد الإحسان إليه. قلتُ: يعني القصد
4- ثم قال الطبري ومنها: الاحتياز والاستيلاء، كقولهم: استوى فلان على المملكة بمعنى احتوى عليها وحازها. انتهى قلتُ قال أبو بكر محمد بن الطيب بن الباقلاني: الاستيلاء هو القدرة والقهر (التمهيد لأبي بكر بن الباقلاني ط المكتبة الشرقية ص262)
5- ثم قال الطبري ومنها: العلو والارتفاع، كقول القائل، استوى فلان على سريره. يعني به علوّه عليه. انتهى بتصرف
ثم هنا مباشرة قال الطبري وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه: "ثم استوى إلى السماء فسواهن"، علا عليهن وارتفع، فدبرهن بقدرته، وخلقهن سبع سموات. ثم حاجج خصمه في العلو وقال له " فكذلك فقل: علا عليها علو ملك وسلطان، لا علو انتقال وزوال"
فماذا فعل المبتدع صاحب ذاك الموقع؟ اختار المعنى الرابع الاستيلاء ثم قال قال الطبري علو ملك وسلطان قلتُ وهذا باطل فالطبري اختار بعد سرد المعاني المعنى الخامس وهو "العلو والارتفاع" وفسرها الطبري بمثال "استوى فلان على سريره يعني به علوّه عليه" يعني ارتفع وأصبح فوق السرير وليس الملك والاستيلاء لأن الطبري ميز بين "الاستيلاء" وهو المعنى الرابع، والعلو والارتفاع" وهو المعنى الخامس وفسر كل منهما وهذا هو المحكم لا مفر منه وقال البيهقي في هذا الوجه: ومعنى الاستواء: الاعتلاء، كما يقول: استويت على ظهر الدابة -قلتُ يعني علا وأصبح فوقها-، واستويت على السطح. بمعنى علوته، واستوت الشمس على رأسي، واستوى الطير على قمة رأسي، بمعنى علا في الجو، فوجد فوق رأسي (الأسماء والصفات ط السوادي ج2/ص307) قلتُ ومنه حديث ابن عباس في صحيح البخاري ط التأصيل (ج5/ص372) "فلما استوى على راحلته" وحديث ابن عمر في صحيح مسلم ط التركية (ج4/ص104) "إذا استوى على بعيره" أي علا عليه وأصبح فوق البعير
والبيهقي لم يأخذ بهذا الذي الوجه لكن نقلته لكي تعلمون كيف أن أهل البدع يحرفون قول الطبري ويتلاعبون
وقال الطبري في وقوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ارتفع وعلا. انتهى
فلو كان علو ملك وسلطان لقال "ارتفع وعلا عليها علو ملك وسلطان"
ونقل البخاري عن مجاهد وأبي العالية علا وارتفع ولم يذكر "علو ملك وسلطان" فهيهات!
1- قال الزمخشري -وهو معتزلي- في التفسير ط الريان (ج3/ص52) لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يردف الملك، جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على العرش يريدون مَلَكَ -قلتُ يعني أصبح تحت ملكه- وإن لم يقعد على السرير البتة. انتهى
واختيار الزمخشري هذا هو المعنى الرابع من الذي ذكره الطبري "الاحتياز والاستيلاء، كقولهم: استوى فلان على المملكة. بمعنى احتوى عليها وحازها" وقال حماد بن زيد عن أيوب بن كيسان السختياني قال في المعتزلة: إنما مدار القوم على أن يقولوا: ليس في السماء شيء. (انظر تخريجه هنا) يعني الله ليس على العرش، وقال أبو الحسن عبد الملك بن عبد الحميد الميموني: سألته -يعني أحمد بن حنبل- فيما بيني وبينه واستفهمته وأستثبته فقلتُ: يا أبا عبد الله قد بلينا بهؤلاء الجهمية ما تقول فيمن قال إن الله ليس على العرش قال: كلامهم كلهم يدور على الكفر قلتُ ما تقول فيمن قال إن الله لم يكلم موسى قال كافر لا شك فيه (انظر تخريجه في هذه المقالة) فلا يتوقع أن الأئمة يقصدون بكلامهم ليس في السماء إله أي علو المرتبة والمكانة فهذا متفق عليه حتى بين أهل البدع المعتزلة والأشاعرة وحتى الجهمية، وإنما كانوا يقصدون الله على العرش وقال حماد بن زيد هو في مكانه -يعني على العرش- يقرب من خلقه كيف شاء (انظر تخريجه في هذه المقالة)
2- قال البيهقي في الأسماء والصفات ط السوادي (ج2/ص307) وفيما كتب إلي الأستاذ أبو منصور بن أبي أيوب أن كثيراً من متأخري أصحابنا ذهبوا إلى أن الاستواء هو القهر والغلبة -قلت يعني الاستيلاء-، ومعناه أن الرحمن غلب العرش وقهره، وفائدته الإخبار عن قهره مملوكاته، وأنها لم تقهره، وإنما خص العرش بالذكر لأنه أعظم المملوكات، فنبه بالأعلى على الأدنى، قال: والاستواء بمعنى القهر والغلبة شائع في اللغة، كما يقال: استوى فلان على الناحية إذا غلب أهلها، وقال الشاعر في بشر بن مروان: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق يريد: أنه غلب أهله من غير محاربة. قال: وليس ذلك في الآية بمعنى الاستيلاء، لأن الاستيلاء غلبة مع توقع ضعف، قال: ومما يؤيد ما قلناه قوله عز وجل: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} [فصلت: ١١] والاستواء إلى السماء هو القصد -قلتُ وهو المعنى الثالث الذي ذكره الطبري- إلى خلق السماء، فلما جاز أن يكون القصد إلى السماء استواء جاز أن تكون القدرة على العرش استواء. انتهى كلام البيهقي بتصرف
ثم قال البيهقي بعد أسطر نقلاً عن الفراء: ووجه ثالث أن تقول: كان مقبلاً -قلتُ وهو المعنى الثالث الذي ذكره الطبري- على فلان ثم استوى علي يشاتمني وإلي سواء، على معنى أقبل إليّ وعليّ، فهذا معنى قوله: استوى إلى السماء والله أعلم ثم قال استوى بمعنى أقبل صحيح، لأن الإقبال هو القصد إلى خلق السماء وقال البيهقي والقصد الإرادة. انتهى بتصرف
ورد قول البيهقي هذا في تصحيح القصد من الأشاعرة علي بن محمد الآمدي فقال: وفيه نظر؛ فإن الاستواء وإن أطلق بمعنى القصد عند صلته بإلى، فلا يلزم مثله، عند صلته بعلى، ولهذا يحسن أن يقال: فلان قاصد إليك، ولا يقال: قاصد عليك (أبكار الأفكار ط الكتب والوثائق القومية ج1/ص463)
قلتُ فالخلاصة لا يمكن أن تقول أن الطبري ذكر الاستواء بمعنى القصد أي الإقبال أو الاستيلاء بمعنى الملك لأنه فرق بينهما وبين العلو الذي هو الارتفاع وفسر كل واحدة ثم اختار "العلو والارتفاع" وقال وذلك أولى المعاني
وقال الطبري في التفسير طبعة هجر جزء (23/صفحة 129) قوله {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء} فقال الطبري هو الله. وهذا ما لا يقوله أهل البدع
هذا والله المستعان وبه العصمة